مـــاء ســــراب


        
   يعرف واقعنا اليومي أحيانا أصنافا من التلاعب بحقوق المواطنين ونستخف بحدتها أمام الملفات 
الضخمة المفتوحة لتصفية ما علق من حسابات مع العقود الماضية .                                         
ولكن القبول بها، وبهذه البرودة، لن يؤدي حتما إلا إلى التعود من جديد على نوع من التطاولات قد تذهب بمجتمعنا إلى أبعد مما كان عليه من اللامبالاة وطمس الهوية وإقبارها في غياهب النسيان .                   
فقد تفاجئ يوما بأحد هذه المواقف ليظهر لك جليا أن التغيير لا يأتي من الفراغ ، وإنما هو وليد الإيمان بكون وجودك حق من حقوقك وتواجد الآخر واجب من الواجبات عليك .                                           
فلا غرابة في أن تتوصل في يومنا هذا باستدعاء قصد أداء غرامة نافذة في حقك يحمل الصيغة التالية : - الأداء قبل الحجز أو الاعتقال - . ونظرا لما تثيره كلمة اعتقال في نفوسنا كيفما كانت مرتبتنا الاجتماعية، فإنها تكفي لوضع أي منا موضع ارتياب من مدى مصداقية حقوقه كإنسان ما دام يهدد بالاعتقال في عقر داره ، لا لشيء سوى لمخالفة بسيطة مشبوه إثباتها .                                                             
فما الفرق بين أن تتوصل بذلك الاستدعاء من مصالح أي محكمة إبان سنوات الجمر، وأن تتوصل به في يومنا هذا ما دامت صيغة المخاِطب لم تتغير رغم كل ما تبوح به شهادات حية من تجاوزات وفضائح وممارسات أسست لحاضر ُبِني على السوط والآسيد ؟
فإذا كان التهديد لا زال قائما ، ولغة الاعتقال أسلوبا ، فأي مصداقية يراد بها لمفهومي الإنصاف والمصالحة ؟
ولنبحث عن مكامن الخلل كي نجدها تتجلى في أزمة الجهل الذي أصبح بديلا للعنف على كراسي المسؤولية في إدارة مؤسساتنا .
ويأتي بي الحديث لأصل إلى بيت القصيد في الخوض داخل أغوار الحقوق والواجبات : الأداء قبل الحجز أو الاعتقال .
فقد كدت أفقد زوجتي ومعها عائلتي الصغيرة إلى ما لا رجعة منه - حيث أنها مصابة بداء ارتفاع ضغط الدم -  حينما تطفل إبني الصغير السن وبدأ يتهجى بصوت عال من وراء ظهري ما كان مكتوبا بأحرف بارزة حمراء على استدعاء جئت به من صندوق الرسائل بالباب : الأداء قبل الحجز أو الإعتقال . وبمجرد ما سمعت أمه كلمة "اعتقال" حتى بدأ وجهها يصفر وانتابها ارتعاش تحولت معه شفتاها إلى لون بنفسجي قاتم وسرعان ما أغمي عليها دون أن تتفوه بكلمة . كنا نستعد لقضاء يوم جديد يتفرغ فيه كل واحد منا  لمهامه اليومية ، فتحولت بنا دائرة الزمن إلى السعي بين المنزل ومستشفى المدينة .ولن أخوض فيما هضم من حقوقنا داخل المستشفى ، ولكنني سأقف عند السبب الذي أتى بنا إليه .
أردت أن أعرف سبب كارثتي وتوجهت إلى مقر المحكمة المصدرة للإستدعاء وطلبت الإطلاع على ملف قضيتي ، ففاجئني الموِِِِِِِِِِقع على مأساتي أن صارحني بهمس في أذني أن لدي أجل عشرة أيام للأداء وأن استدعائي مجرد "إجراء عادي" كان الغرض من وراءه الإيتاء بي قصد أداء غرامة مالية مقدرة في مبلغ مائتي درهم تخلدت بذمتي من جراء مخالفة لقانون السير ويزيد أمدها عن أربع سنوات مضت .
  عندها اقتنعت بأن التغيير لا ينبع إلا من قطيعة مع أكبر قدر ممكن من السلوكيات المستفزة لحقوق المواطن واحترام كرامته بالإيمان أن حقوقه لا تهضم بذريعة ما عليه من واجبات .
وزاد استغرابي عندما " صارحني " أيضا بأن آجال الطعن لا زالت سارية مما يخول لي حق متابعة دعواي أمام درجة أعلى من التقاضي . تبادر إلى ذهني حينها كل ما كنت أسمعه وأقرأه عن المصالحة مع الماضي ، ونظرت في وجه مخاِطبي ووددت لو رجع بي الزمن إلى القرن الماضي حتى ينساق ما أسمعه الآن مع واقع كان وراء ستار الصمت .ونظرا لاطلاعي القاصر في ميدان القضاء ، فقد طلبت منه إحالة ملف قضيتي على من هو أكثر منه مسؤولية .
دخلنا مكتبا تخال لما وفر فيه من ظروف العمل أنك ستجد عند من هو متربع على كرسيه جوابا شافيا ، فكان رده أكثر استخفافا لما طلبت منه إقناعي بكون الأمر الصادر في حقي قابلا للتنفيذ دون استيفاء آجال الطعن وتوفير الشروط القانونية لاحتسابها ، واسترسل بين مكالمتين هاتفيتين أن مبلغ الغرامة جـد زهيد ويستحسن بي أداءه فورا تفاديا لأي "مضاعفات" في قيمته .قاطعته قائلا بأن ما جاء بي إليه هو الاستياء من طريقة استدعائي لأداء تلك الغرامة وما تسبب فيه أسلوب إدارته من أضرار قد لا تجبر مدى الحياة  وليس للحصول على أجل استرحامي لذلك .
فمن سيزيل من ذاكرة إبني الصغير أن أباه يهدد بالإعتقال في عقر داره في زمن سوف يقرأ عنه في كتب التاريخ أنه عهد الإنصاف والمصالحة ؟ ومن سيمحو من أحداث يومه أنه رأى أمه تصارع الموت بسبب جهل أغلبية مسئولينا لمعنى المواطنة وتجاهل الفئة المتبقية منهم لمعنى المسؤولية ؟ كل ذلك تجاوزا لأدنى حق  يحفظه لي القانون بقوته في مساطر يبدو أنها لا تستشار إلا عندما يقف حمار الشيخ .
وجدت نفسي تائها في دوامة فارغة ، فعدت أدراجي حيث تركت التاريخ ، لأجد أن زوجتي استفاقت من غيبوبتها وعيناها تسألاني بإلحاح عن سبب استدعائي ، فطمأنتها قائلا أن كل الأمور أصبحت تتحسن والحمد لله ، ففهمت من نبرة صوتي أنني أقصد بالطبع حالتها الصحية ، أما حال واقعنا فهو أشبه بتلك المقولة التي كان يرددها والدي دائما : "قطرة ماء متسخة قد تلوث كأس ماء صاف ، وقطرة ماء صافية لن تحلي أبدا كأس ماء عكر" .
 فمن أي الكأسين لنا أن ننعم بشربة ماء تزيل عنا ظمأ السنين الحارق بدل سقينا بماء سراب ؟

الكاتب :  سعيـد بوفـوس
الرشيدية في : 19 يناير 2011

# - أثير الإنتباه أن هذه القصة من نبع الخيال رغم صلتها بالواقع وكل تشابه مع أشخاص ذاتيين مجرد صدفة.  

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

L'école coranique

Un nouveau rond-point d'interrogation ...

Compte rendu de la réunion du forum marocain pour la vérité et la justice(section de Goulmima).